الحلقة العاشرة: تكنولوجيا البلوك تشين – تكنولوجية ثورية ما زال العالم غير مستوعب لأهميتها

...
التاريخ: 07 - 08 - 2019

 

د. م. علي محمد الخوري

تعتبر تكنولوجيا البلوك تشين (Blockchain) هي الترجمة المباشرة لمفهوم سلاسل إنشاء القيمة الاقتصادية (Value Creation Network)، فهذه التكنولوجيا الثورية تقدم مفهوماً جديداً لإثبات أي نوع من المعاملات التي تتطلب حركة مالية أو تناقل أصل مادي أو معنوي أو إجراءات الطلب وما يتبعها من موافقات. ولا تكتفي هذه التكنولوجيا بتقديم حلول سهلة وميسرة لهذه المعاملات فقط، ولكنها تتعداها لتمنح تلك المعاملات موثوقية ومعايير أمنية يتعذر إنكارهها أو التحايل عليها.

ونظراً لكثافة المعلومات حول هذا الموضوع، فإننا سوف نتعرض لهذه التكنولوجيا في ثلاث حلقات متتالية. سنبدأ هنا بالحديث عن هذه التكنولوجيا ووصف هيكل خدماتها وميزاتها الرئيسية.

تم ابتكار تكنولوجيا البلوك تشين في عام 2008 من قبل شخص أو مجموعة أشخاص تحت إسم (ساتوشي ناكاموتو – (Satoshi Nakamoto – ولا زالت هذه الهوية مجهولة وغير معروفة حتى الآن – وتم الاعتماد على هذه التقنية لتصميم أول عملة نقدية رقمية مشفرة وهي “البتكوين”.

يمكن تعريف البلوك تشين بأنها قاعدة بيانات موزعة موجودة على أجهزة حاسوبية متعددة في نفس الوقت. وتتكون قاعدة بيانات البلوك تشين من مجموعة من الكتل والتي تحتوي على سجلات رقمية، وتحمل كل كتلة تشفيرات خاصة للتواريخ الزمنية التي تم فيها إنشاؤها، وروابط الكتلة السابقة، وتتشكل بهذه الطريقة سلسلة من الكتل مع الإضافات الجديدة، ولا يمكن التعديل في بيانات هذه الكتل إلا باتفاق الأطراف المشتركة في الشبكة.

وقد مكنت تكنولوجيا البلوك تشين من إيجاد حل لمشكلة الإزدواجية التي عادة ما تحدث في السجلات الإلكترونية؛ كالإنفاق المتكرر لنفس المبلغ المالي في مواقع مختلفة على سبيل المثال. ويعزى ذلك إلى هيكلية النظام في تأمين وتوثيق وحفظ السجلات، ومشاركة البيانات مع جميع الأطراف المرتبطة على الشبكة، بالإضافة إلى درجات التشفير المعقدة والمعايير الأمنية المستخدمة. كل ذلك أدى بدوره لتحفيز تطوير تطبيقات ذكية معتمدة على تكنولوجيا البلوك تشين، خاصة في تمكين ظهور العملات المشفرة واستخداماتها في العالم.

تعتبر تكنولوجيا البلوك تشين مفهوماً تنظيمياً وإدارياً للمعاملات المالية والتجارية بشكل أساسي. وقد قام المطورون بتقديم حلول مختلفة لتنفيذ هذا المفهوم، وتختلف هذه الحلول بعضها عن الآخر من حيث التفاصيل والمواصفات، وتأتي هذه الحلول كمنصات تشغيل تتيح لمشتركيها تنفيذ معاملاتهم من خلالها، كما تتيح للمبرمجين تنفيذ حلول مكملة لاحتياجات المؤسسات أو في تصميم الخدمات التفصيلية التي تتطلب درجة عالية من الدقة والموثوقية والاعتمادية.

ويمكن تصنيف منصات خدمات البلوك تشين لفئتين أساسيتين، وهما:

1- المنصات العامة (Public Platforms): ويطلق على هذه الفئة من المنصات وصف المنصات التي لا تتطلب تصاريح (Permission-less Platforms)، فهي لا تتطلب معرفة هوية المشترك، ويمكن لمستخدميها استخدام أسماء مستعارة. ومن أشهر هذه المنصات هي منصة عملة البيتكوين، فهي مفتوحة تماماً للعامة، ويمكن للمشتركين فتح الحسابات والمحافظ المالية الرقمية، وتبادل العملات، وممارسة أنشطة التعدين للعملات المشفرة (Cryptocurrency Mining) وبدون الكشف عن هوياتهم الحقيقية. (*التعدين هو مصطلح يشير إلى الإجراءات التي تتم من خلالها توثيق العمليات الإلكترونية التي تحتوي على عملات مشفرة وإضافة السجلات الرقمية في قاعدة البلوك تشين).

ومن عيوب المنصات المفتوحة البطء واستهلاكها لكمية كبيرة من الطاقة، والتي قد يصل وقت إنجاز المعاملة فيها لأكثر من 10 دقائق، وهذه الشبكات تتميز بالتحكم التلقائي من المنظومة والتي تعتمد على إجماع عدد كبير من المشتركين أو نقاط العمل (nodes) على العمليات الإلكترونية. ومن أشهر المنصات العامة، هي:

a. منصة البتكوين (Bitcoin): وهي المنصة الأساسية لتناقل عملة البيتكوين بيعاً وشراءاً. وتقدر القيمة السوقية للمنصة في الوقت الراهن أكثر من 180 مليار دولار، حيث سعر العملة الواحدة يتجاوز 10 آلاف دولار وبسلة عملات تصل إلى 17.8 مليون عملة، ويتم تعدين ما يقارب 1800 عملة جديدة يومياً.

b. منصة إيثريوم (Ethereum): وتستخدم في تطبيقات مختلفة منها عملة الإيثيريوم والعقود الذكية وتعتبر واسعة النطاق من حيث قابلية التوسع، كما وتتميز بكونها قابلة لتعمل كمنصة خاصة أيضاً.

c. منصة ستيلر (Stellar): وتقدم حلول سريعة وفعالة للمؤسسات المالية والأفراد خاصة في مجال المدفوعات ونقل الأموال وتتميز بالسرعة والموثوقية، ودون تكلفة إضافية تقريباً. كما وتمكن المنصة المطورين من إنشاء محافظ إلكترونية بتطبيقات الهاتف المحمول واستخدام أدوات مصرفية ذكية لتطوير أنظمة الدفع عبر الإنترنت. وتتميز المنصة أيضاً بكونها قابلة لتعمل كمنصة خاصة.

2. المنصات الخاصة (Permissioned Private Platforms): وهذه المنصات تقدم بيئات عمل لتطوير تطبيقات ذكية تتناسب مع متطلبات المؤسسات والجهات الحكومية والخاصة. ولا تسمح هذه المنصات الإشتراك بها إلا للمعنيين فقط بهويات حقيقية، والتي تعتمدها الجهات المالكة لهذه المنصات. كما أنها تتطلب موافقات داخلية واجراءات تنظيمية متعددة، والتي عادة ما يتم برمجتها ضمن آليات منظومة العمل الإلكترونية ولتتوافق مع المتطلبات القانونية والإجرائية؛ أي أنه يتوجب اعتماد المعاملات من المختصين وذوي الصلاحية أو من خلال الخوارزميات التي يمكن تطويرها حسب الطلب، ووفقاً لما تتيحه التكنولوجيات الخاصة بكل منصة على حدة. ومن أشهر المنصات الخاصة، بالإضافة إلى بعض ما تمت الإشارة إليه، هي:

a. منصة النسيج (Hyperledger Fabric): تقدم إطار عمل لتطوير تطبيقات تكنولوجية ذكية كالعقود الذكية وأنظمة التمويل ونظم لإدارة سلسلة التوريد والتصنيع. واستثمرت شركات مثل أي بي إم (IBM) في هذه المنصة لبناء تطبيقات وخدمات ذكية للمؤسسات.

b. السلسلة المفتوحة ((OpenChain: هي منصة عالية التأمين ومفتوحة المصدر لتكنولوجيا دفتر الأستاذ، تم تطويرها بواسطة شركة كوين بريزم (Coinprism) للمؤسسات التي ترغب في إدارة أصولها الرقمية والحفاظ عليها.

c. منصة ريبل (Ripple): تشتهر المنصة بجمعها مزودي الدفع والبنوك والشركات وكأفضل منصة لتطوير حلول المدفوعات العابرة للحدود. المنصة ملائمة لاستخدامات المؤسسات التجارية كبيرة الحجم وأقل ملاءمة للشركات الصغيرة والمتوسطة أو المستخدمين الأفراد.

ولعل أهم ما تتميز به هذه المنصات هو قدرتها على تمكين المطورين على بناء تطبيقات فوق هذه المنصات – وباستخدام لغات البرمجة التقليدية مثل السي++ والجافا والبايثون – لتخدم أهداف الأعمال والأنشطة الاقتصادية والحكومية المختلفة. ومن أهم هذه التقنيات، مفهوم “العقود الذكية” وهي عقود ذاتية التنفيذ وفقا لشروط الاتفاقية المبرمة بين البائع والمشتري والتي تتم كتابتها مباشرة في سطور من التعليمات البرمجية.

وبوصف آخر، العقد الذكي هو بروتوكول آلي يهدف إلى تسهيل عمليات التفاوض و تنفيذ التعاقدات بشكل آلي. وتتيح العقود الذكية إنجاز المعاملات وتوثيقها دون وجود أطراف ثالثة. ويعد اقتران مفهوم العقود الذكية مع تكنولوجيا البلوك تشين ميزة هامة نظرًا لأنه نظام لا مركزي موجود بين جميع الأطراف المسموح لهم بالمشاركة أو الإطلاع، وليست هناك حاجة للدفع للوسطاء، ويوفر الوقت والجهد والموارد وكذلك يمنع الأخطاء البشرية، ويمكّن الأطرف من إتمام معاملاتهم في المكان والزمان المناسب لهم.

أعلنت منصة البلوك تشين ان عدد المعاملات في شهر يونيو  لعام 2019 بلغ (430) مليون معاملة. ويذكر أن أول معاملة بلوك تشين تم تسجيلها كانت في عام 2009، وفي خلال السبع سنوات الأولى تم تسجيل 100 مليون معاملة. ولكن من الملاحظ في الأعوام الثلاثة الأخيرة، ارتفاع هذا الرقم بأكثر من 100 مليون معاملة في كل سنة.

كما وتشير الإحصاءات الحالية إلى تزايد أعداد مستخدمي المحافظ المالية الرقمية على منصات البلوكتشين والذي يبلغ حالياً حوالي 40 مليون محفظة إلكترونية، علماً بأن أعداد المشتركين خلال الأربع سنوات الأولى لم يتعدى الخمسة ملايين مشترك، ثم تزايد حجم الوعي الشعبي بهذه التقنية وتزايد عدد المشتركين فيها ليرتفع سنوياً بمعدل عشرة ملايين مشترك جديد سنوياً.

كل ذلك يؤكد حالة من التنامي الكبير جداً في تبني تكنولوجيات البلوك تشين، خاصة ومع تزايد اهتمام المؤسسات العالمية، والأوروبية تحديداً، بتبنيها في تطوير خدماتها ومنتجاتها. كما أن الممارسات العالمية تشير إلى أن هذه التكنولوجيا قادرة على توفير ميزات لا توفرها أي تقنية أخرى في البيئات الإلكترونية، كالشفافية، والأمن، وتتبع المعاملات، ورفع كفاءة وسرعة الإنجاز، وفي تخفيض التكاليف.

كما أنه وبعكس ما قد يتصوره الكثيرون، بأن تكنولوجيا البلوك تشين مرتبطة بالعملات الرقمية المشفرة، فإن الباحثين والخبراء يرون بأن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد جزء بسيط من الاستخدامات المحتملة لها، فهم يشيرون إلى إمكانات غير مسبوقة في غضون بضع سنوات قادمة، وتمكينها لقفزات ثورية في مجالات اقتصادية وصناعية مختلفة ستلامس احتياجات المؤسسات والأفراد، وأن ما نراه اليوم لا يتعدى أن يكون سوى البداية!