الحلقة الحادية عشر: تكنولوجيا البلوك تشين – أنظمة ستقلب طبيعة الممارسات الاقتصادية رأسا على عقب

...
التاريخ: 14 - 08 - 2019

د. م. علي محمد الخوري

أشرنا في الحلقة السابقة إلى أن تكنولوجيا البلوك تشين (Blockchain) تعد بإحداث تغييرات ثورية ونقلة نوعية في تطوير مختلف القطاعات، لكونها تقدم مفهوماً جديداً في إنشاء، وتنظيم وإثبات ونقل البيانات. وفي الجزء الثاني من هذه الحلقة حول الموضوع، سنستعرض طبيعة عمل هذه التكنولوجيا ليمكننا لاحقاً أن نتفهم ونتخيل كيف يمكن توظيفها في أنشطتنا البشرية والاقتصادية.

تُشكل سلسلة الكتل (Blockchain) في هيكليتها سجلاً رقمياً لا مركزياً يسمى بـ “دفتر الأستاذ” والذي يكون متاحاً وموزعاً وموثقاً بين كافة المشتركين في شبكة البلوك تشين. ودفتر الأستاذ، بلغة الممارسة المالية، هو السجل الرئيسي والمركزي للمحاسبة، والتي تقيد فيه كل الحسابات المالية من أصول وإيرادات ومصروفات، ومكاسب وخسائر وغيرها.

ويتم تسجيل بيانات المعاملات الإلكترونية في سلسلة الكتل بدقة وكفاءة وبشكل لا مركزي، وبطريقة يمكن التحقق منها بشكل قاطع ودائم. كما أن هذه التكنولوجيا تُمكن الاتصال المباشر بين المشتركين في شبكة البلوك تشين لإدارة السلسلة، حيث يلتزم الأعضاء – مجتمعين وبطريقة آلية، من خلال المنظومة – ببروتوكول خاص للاتصال فيما بينهم (peer-to-peer)، لإنشاء وإضافة والتعديل على الكتل وتوفر آليات مختلفة للتحقق من صحتها واعتمادها بشكل جماعي.

ويتم إصدار كل كتلة “Block” من خلال رقم تعريف فريد غير قابل للتكرار، ويحمل بصمة رقمية تتضمن تاريخ الإصدار ومشفرة بمفاتيح تشفير غاية في التعقيد. وبشكل عام، فإن كل كتلة (Block) في هذا السجل، تحمل المعلومات الرئيسية التالية:

  • كود مفتاح التشفير الخاص بها
  • تاريخ الانشاء
  • وصف الموضوع
  • بيانات صاحب المعاملة – وقد يكون إسم مستعار
  • رمز آخِر كتلة بالسلسلة قبل هذه الكتلة مباشرة

أي أن كل كتلة في السلسلة تحتوي على بيانات الكتلة السابقة وتعتبر جزءاً منها، وتتضمن معلومات مترابطة تربط كل كتلة ببعضها البعض، بدءا من تكوينها إلى آخر تحديث تم عليها.

والميزة الأمنية التي توفرها سلسة البلوك تشين تكمن في أنه وبمجرد تسجيل الكتلة وإضافتها في ترتيب زمني، لا يمكن تغيير البيانات الخاصة بهذه الكتلة بغرض التلاعب أو الاحتيال بأثر رجعي دون تغيير جميع الكتل التالية، الأمر الذي يتطلب إجماع غالبية أعضاء الشبكة، وهو الأمر الذي يُعدّ من الناحية العملية مستحيلاً. وذلك يمنح سجلات البلوك تشين ميزتها الكبيرة بأنها غير قابلة للتغيير والتلاعب في البيانات، بسبب طريقة تصميمها اللا مركزي.

والتصميم اللا مركزي لسلاسل البلوك تشين يلغي الحاجة إلى طرف ثالث لمعالجة أو تخزين البيانات، فهي تعتمد على مفهوم قاعدة البيانات الموزعة (Distributed Databases) في مقابل قاعدة البيانات المركزية Centralized Database)). حيث يسمح لجميع الأعضاء المشاركين في السلسلة تتبع كل المعاملات على الشبكة والوصول إلى دفتر الأستاذ وتصفح بياناته.

فعلى سبيل المقارنة مع المنهج الشائع الحالي في المعاملات المالية، نجد أن معظم الأفراد يلجأون إلى وسطاء موثوقون بهم مثل مراكز الصرافة والبنوك لإنجاز المعاملات المالية كتحويل ونقل الأموال، في حين أن سلاسل البلوك تشين تسمح للأفراد والمستهلكين بالاتصال المباشر بالموردين ومقدمي الخدمة، وهو ما يلغي تماماً الحاجة لطرف ثالث والوسطاء. كما أن معاملات سلاسل البلوك تشين تتميز بميزة التسوية الفورية لا تتعدى الثانية أو بضع ثواني لإتمام المعاملات المالية، وهو ما يراه البعض بأن تأثير ذلك قد يصل قيمها إلى تريليونات الدولارات سنوياً، كنتيجة لتقليل الوسطاء، وتخفيض رسوم العمليات أو انعدامها، وارتفاع مستوى كفاءة وفعالية المنظومات، والتكاليف الأخرى المرتبطة بالبنى التحتية، وغيرها.

وكمقارنة أخرى مع المنهج الشائع في مجال أنظمة الحفظ المركزية للبيانات، فالبنوك تكون مسؤولة عن صحة البيانات المالية والتي من ضمنها قيمة أرصدة المتعاملين، وهي مسؤولية مركزية كما نعلمها للبنك فقط، ويتوجب عليه أن يحافظ على سجلاته بطرق متعددة لضمان حقوق المودعين، لكننا في سلاسل البلوك تشين، فإن جميع بيانات المتعاملين بما فيها أرصدتهم المالية، موزعة على جميع المشتركين في الشبكة.

أما من ناحية المعايير الأمنية، فإنه وفي حال تم اختراق بيانات البنك وتغييرها بواسطة الهاكرز مثلاً، فإنهم قد يصلون مباشرة إلى قاعدة البيانات المركزية – والنسخ الإلكترونية الاحتياطية – وسيكون بإمكانهم تغيير البيانات بسهولة، بافتراض قدرتهم على اختراق أمن قاعدة البيانات، وهو الأمر الذي ليس بالمستحيل من الناحية الفنية. في المقابل، على منصات البلوك تشين، فإن الهاكرز سيتعين عليهم اختراق أجهزة ملايين المستخدمين لتعديل بيانات الكتل المشفرة، ومن الناحية العملية فإن هذا الأمر يعد مستحيلا فنياً، كما وسيتم كشفه قبل تغيير البيانات.

ومن المتوقع أن يكون لتكنولوجيا البلوك تشين تأثير إيجابي على سلاسل التوريد، وذلك في قدرتها على تتبع المنتجات بدءا من بذور المزارع أو المواد الخام إلى أرفف العرض. وكانت شركة أي بي إم (IBM) قد أعلنت عن مشروع بالتعاون مع أكبر موردي المواد الغذائية للاعتماد على سلاسل البلوك تشين لتمكين تتبع المنتجات داخل سلسلة الإمداد الغذائي، ولتوفر الشفافية للمستهلكين لمعرفة المصدر الحقيقي للسلع المصنعة.


في مجال العمل الحكومي، فقد أعلنت عدد من الدول عن البدء في تنفيذ مشاريع معتمدة على تكنولوجيا البلوك تشين لحفظ السجلات الرقمية، مثل تسجيل ونقل سندات ملكيات الأراضي.

أما في مجال الرعاية الصحية، فإن تطبقات البلوك تشين من شأنها أن ترفع مستويات الخدمات المقدمة وتأمين سرية السجلات الطبية. كما أن السجلات في سلاسل البلوك تشين من شأنها توفير بيانات لدعم مكافحة الفيروسات والأمراض في مجتماعاتنا.

إن التأثير المتوقع لتكنولوجيا البلوك تشين من شأنه أن يحدث تغييرات ثورية في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية خلال العقدين المقبلين. يكفي بأن أبسط تطبيقات هذه التكنولوجيا كالعملات الرقمية المشفرة أصبحت تغير قواعد اللعبة في الخدمات المالية سواء كانت مرتبطة بأنظمة مدفوعات، أو توفير قروض، أو إدارة المحافظ الرقمية وغيرها في مجالات الشمول الرقمي. كما أن التحول لمثل هذه التكنولوجيا سيكون جداوه الاقتصادي هائلاً لأنه سيلغي الحاجة للوسطاء والطرف الثالث.

كما أن اعتماد هذه التكنولوجيا على لامركزية البيانات قد يعيد الثقة في الأنظمة الرقمية، خاصة لأنها تدعم سرية البيانات وأمن المعلومات. كما أن هذه اللامركزية ستفتح باباً جديداً من الشفافية لمنع التلاعب بالبيانات والفساد على مستوى الأفراد والمؤسسات والحكومات سواء، ورفع مستوى الثقة في البيئات الرقمية؛ أي أنها تبني أنظمة قائمة على الثقة.

ومن هذه النظرة، فإن تطبيقات البلوك تشين يتم ترويجها لتدخل دائرة العمل السياسي، لأنه وبإستخدامها في أنظمة التصويت علي سبيل المثال فلن يكون بالإمكان أبداً التعديل والتزوير في بياناتها ونتائجها، وهو ما يرى الكثيرون بأن هذه التكنولوجيا كانت لتمنع روسيا من اختراق أنظمة التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016.

في خلاصة، تأثير تكنولوجيا البلوك تشين سيكون عميقاً جداً في مجتمعاتنا، لأنها ببساطة تقدم طريقة ثورية في معالجة البيانات وتسجيل المعاملات في البيئات الإلكترونية، وأدوات متقدمة للتحقق والتأكد من موثوقية السجلات بشكل لا يمكن التلاعب به أو تغييره، وذلك في حد ذاته سيقلب الأنظمة والممارسات الاقتصادية في عالم اليوم رأساً على عقب!